مصر تستعيد تراثها الشعري في مشروع «ديوان الشعر المصري»

هل ظلَمَ المصريون شِعْرَهُم؟.. يستطيعُ المرءُ أن يقولَ: نعمٌ، ولا. نعمٌ ؛لأنَّ تقديمَ هذا الشِّعْر منذُ النصف الثانى من القرن الثالث للهجرة؛ تاريخ ظُهور شِعْر مصرى خاص وحتى أيامنا هذه، يتمُّ بشكلٍ غير مُؤسسى، لا إعدادَ فيه ولا تنظيمَ، حيثُ لا توجدُ خُطَّةٌ مدرُوسةٌ مُمنهجة لنشرِ وإبرازِ شُعراء مِصر فى القرون الغابرة وحتى اللحظة الرَّاهنة. ولأنَّ هناك أساتذةً كبارًا فى الجامعات المِصرية قد درسُوا الحياةَ الشِّعْريةَ، وشِعْر رمُوز هذه الحياة.

وللأسف كان ذلك قبل عقُودٍ مضتْ، حيث لم يُعَدْ نشرُ دواوينهم والدراسات الأدبية والنقدية عن حيواتهم وشِعْرهم وعُصُورهم، كما أنَّ أغلبَ هذه الكُتب نُشرت بشكلٍ أكاديمى محدُودِ التوزيع مِصريًّا وعربيًّا، ولم تُخاطب المتلقِّى العام، كما أنَّ أشعارَهم غابت عن المناهج الدراسية، ونسَوْا تمامًا شُعراء بحجم البهاء زهير (1186- 1258ميلادية) ابن سناء المُلك وابن نُباتة المصرى (1287-1366ميلادية) على سبيل المثال لا الحَصْر.

وقد آن الأوانُ لأن نعيدَ هؤلاءَ الشُّعراء إلى الحياةِ مرةً أخرى، خُصُوصًا أنَّ نصُوصَهُم غائبةٌ، كما أنهُ ينبغى إدراكُ خُصُوصية الشَّاعر المصرى وشِعْره المكتُوب فى بلاد النيل، حيثُ يغيبُ « ذكر الأطلال والرسُوم أو بُكاء الديار والدِّمن، ولا نسمعُ عن حديث الأثافى والناقة أو غير ذلك مِمَّا تعوَّدناه من شُعراء البادية».

وعلى هذا فقد قامت الهيئة العامة للكتاب بإصدار سلسلة عن هؤلاء الشعراء وغيرهم وترأس تحرير السلسلة الشاعر أحمد الشهاوى، وعن هذه السلسلة يقول الدكتور أحمد بهى الدين رئيس مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب إن مصر منذ فجر التاريخ حضارة ملهمة للإنسانية، مساهمة فى إثراء معرفتها، والتجديد فى إبداعها، فكانت وما زالت حضارة متجدِّدة حية تنتج وترسل وتستقبل، فتبدع فى إنتاج معرفةٍ ممصَّرة لها طابع إنسانى عالمى.

وقد عرفت مصر الشعر فى أنشودة إيزيس وعلى لسان حتشبسوت، وفى البرديات التى سطرها الكاتب المصرى القديم، وأسهمت فيه بنصيب وفير، لم يصل إلينا منه إلا نزرٌ يسيرٌ يصوِّر الروح المصرية الأصيلة والحس الإنسانى المحلِّق. ولما كان الشعر للعربية ديوانها، كان لمصر ولا يزال نصيب من الإبداع فى بنائه، والارتقاء بأغراضه، واستمراريته طوال قرون منذ اتصلت مصر باللغة العربية، لسانًا وثقافةً وعلمًا، فقدمت للعربية شعراء كبارًا.

أسهموا بإبداعهم فى هذا البناء الشامخ، لقى هذا النصيب عناية ورواجًا، وبقى الآخر كامنًا فى كتب التراث، والمخطوطات، وظل فى بطون أمهات الكتب إبداع فريد آن لنا أن نميط اللثام عنه، وأن نغطِّى جوانبه لنكشف عن إسهام مصر فى الشعر.

ولدينا ذخيرة شعرية ضمت صنوف الإبداع الشعرى، لعل هذاالمتنوع يكشف عن رصيد مصر الشعرى حتى منتصف القرن التاسع عشر، وقد اخترنا لهذا المشروع عنوان «ديوان الشعر المصرى»، لتعرف أجيال قادمة إبداع الأجداد وليعرفوا نصيب مصر فى بناء الشعر العربى السامق، وأن مصر أثرت الثقافة العربية إبداعًا شعريًّا، كما أثرت الثقافة الإنسانية قديمًا وحديثًا، على مستويات الفن والإبداع والعلوم. «ومن ثم كانت هذه السلسلة للاهتمام بما أنتجتهُ مصرُ من شعرٍ مكتُوبٍ خلال ألف عام من الكتابةِ باللغةِ العربية».

ومن هولاء الشعراء الذين ضمتهم السلسة ابن سناء الملك فنادرًا ما نجدُ أحدًا يذكرُ ابن سناء الملك بوصفه واحدًا من كبار الشُّعراء المِصريين ؛ لأنَّنا لم ندرسه فى المناهجِ الدراسيةِ، كما أنَّ كتبَه غير متوفِّرة فى المكتبات، وإن أنصتنا إلى فيروز استمعنا إلى غنائها مقاطع من شِعْره: «يا شقيق الرُّوح من جسدى...»، لكن من دُون أن نعرفَ أنَّ هذه المقاطعَ من شِعر ابن سناء المُلك، وإذا ذكرنا اسمَه جاء مرتبطًا باسم شارعٍ فى المدينة المُنوَّرة أو فى غيرها من المُدن، أو على مدرسةٍ ما.

وقد ذكر شوقى ضيف فى كتابه «فصول فى الشعر ونقده» أنَّه لا يبالغ إذا قال: «إنَّ ابن سناء الملك، أكبر شاعرٍ ظهر بمصر قبل العصر الحديث».

وكان ابن سناء المُلك فى زمانه موضع حسَد الشُّعراء المُعاصرين لما لهُ من علاقاتٍ وصلاتٍ عميقةٍ بعِليَةِ قومه وقتذاك مثل القاضى الفاضل؛ لأنَّ هذه الصلة جعلت ابن سناء المُلك مُقرَّبًا من صلاح الدين الأيوبى وحاشيته. لقد عاش ثمانيةً وخمسين عامًا، وكان يُطلَقُ عليه «القاضى السَّعيد»، وكان واسطة العقد فى مجالس الشُّعراء بمصر، وهو أوَّل من استكثر من الموشَّحات وأجاد فيها من شُعراء المشرق.

ويذكرُ محمد كامل حسين فى كتابه «دراساتٌ فى الشِّعْر فى عصر الأيوبيين» أنَّ «ابن سناء المُلك أول من مَصَّرَ خرجة المُوشَّح، وأوَّل من ألَّف كتابًا فى هذا الفن، كما أنه أوَّلُ من أكثرَ من كتابةِ المُوشَّحات، فإنْ كان ابن سناء المُلك عُرِفَ بالشِّعْر، فإنِّى أضعُهُ بين المُوشِّحِين؛ لأنَّ الموشَّحَ هو الفنُّ الذى بَرَزَ فيه ونَبَغَ أكثرَ من نبوغِه فى الشِّعْر».

وهو يعدُّ من أكبر شُعراء مصر فى العصر الأيوبى ومن أكثرهم إنتاجًا للمنظُوم والمنثور. وَصَفَهُ ابن خلكان (608-681 هـجرية)، بقوله: «صاحب ديوان الشِّعْر البديع والنظم الرَّائق، أحد الفُضلاء الرُّؤساء النبلاء، وكان كثير التخصُّص والتنعُّم، وافر السَّعادة محظُوظًا من الدُّنيا»، ولابن سناء الملك ديوانٌ شعريٌّ، طُبِعَ بتحقيق محمد إبراهيم نصر، ومراجعة حسين نصار فى القاهرة سنة 1969ميلادية، ثم أعادت الهيئة العامة لقصور الثقافة طبعه سنة 2003 ميلادية. وله كتابٌ شهيرٌ هو «دار الطراز».

غلاف الكتاب

وهناك أيضا الشاعر ابنُ نُبَاتة المِصْرى وهو شاعر ذو خيالٍ خصبٍ جامحٍ، عارفٍ بتراثه الشِّعرى والدينى، ولذا لا يجد صعوبة فى الكتابةِ، خُصوصًا أنه يتسمُ بالسهولة والسلاسة، إذ إنَّ نصَّه قريبٌ من متلقِّيه، ومن ثم عاش طويلًا وانتشر، لكنَّ أهلَ الأدبِ فى بلادى قد تناسوه وأهملوه. ولا تغيبُ الرُّوح المِصريةُ لحظةً واحدةً عن شِعر ابن نُباتة المصرى، الذى ذاع صِيته فى المئة الثامنة للهجرة (الرابع عشر الميلادى)، وكان أشعرَ شُعراء مصر فى زمانهم.

حيثُ ذاع صيته واشتهر شعرُهُ فى شتى الآفاق، بعدما خلق لنفسه الشأن والمكانة الرفيعة؛ فهو ابن نتاج ثقافةٍ مصريَّةٍ، إذْ انتقل إلى الشام سنة 717 هـجرية وعمره ثلاثون عامًا شاعرًا متكونًا متحقِّقًا، وهو غير الشَّاعر ابن نباتة السَّعدى (327-405 هجرية/ 938- 1015ميلادية) أحد شُعراء سيف الدولة الحمدانى. وُلد فى زُقاق القناديل فى الفسطاط بالقاهرة، وأُطلق عليه «أمير شُعراء المشرق»، لينيرَ قنديلُه أرواحَ من قرأوه شاعرًا أو ناثرًا، وامتاز بالدَّفق المُوسيقى، والذهاب نحو لُغةِ الحياة اليومية.

والاعتماد على التورية بتَغْطية القَصْد بإظهار غيره، وإيراد لفظ ذى مَعْنَيَيْن ظاهرٍ وخفى؛ أى «الإتيان بلفظٍ له معنيان، معنى قريب ظاهر غير مقصُود، ومعنى بعيد خفى هو المقصُود»، ولإثارة الذِّهن، إذْ هو يستغلُّ ثراء اللغة فى دلالات الألفاظ، واهتمامه الشَّخصى بجماليات اللغة وأسرارها، وهو عندى شاعرُ غزلٍ، حيث جاءت مطالعُ أكثر قصائده غزلية، واحتل شِعرُ الحُبِّ مساحةً كبيرةً من ديوانه الذى تجاوز الألف قصيدة مُتفاوتة الطول ما بين بيتين إلى ما فوق المئة بيت.

وفى مديح النبى محمد لم يعارض البوصيرى بل كتب قصيدةً مطوَّلةً مُختلفةً عن «البُردة»، لقد أراد أن يكون مُستقلًّا لا مقلِّدًا. يُدرَّسُ شعرُ ابن نباتة المِصرى – الذى عاش فى أواخر العصر الأيوبى وأوائل العصر المملوكي-فى مناهج التعليم العربية، لكننا لا نجدُه فى مناهج مصر التعليمية. يمتاز ابن نباتة المصرى (1278- 1366ميلادية ) فى شعره بالرقّة وحسن التورية وبالاقتباس من القرآن الكريم والحديث الشريف، والمأثور الشعبى والتاريخى، ثم بالاتّكاء على مصطلحات أصحاب النحو والعروض والفقه والتصوّف والفلسفة».

وهناك أيضا البهاء زُهير، وتستطيعُ أن تعثُرَ على شارع البهاء زُهير فى مدينة القاهرة، أو مُدن الرياض وجدَّة والقطيف وغيرها من مدن فى المملكة العربية السعودية، أو فى أى مدينةٍ عربيةٍ أخرى، أو تعثُرُ- مثلًا- على مدرسةٍ تحملُ اسمَهُ فى مدينة قُوص بمحافظة قنا، حيث عاشَ سنواتٍ من حياته فيها مع أسرتِه أو غيرها من المدارس فى البلدان العربية، أو تستمع بصوت فرقة الموسيقى العربية أو نور الهدى، أو ناظم الغزالى، أو صباح فخرى إلى قصيدته «يا مَنْ لَعِبَت بِهِ الشَّمُولُ» أو «غيرى على السُّلوان قادر» بصوت منيرة المهدية، أو نور الهدى أو الشيخ أبو العلا محمد أو سيد النقشبندى أو سواهم من أهل الغِناء.

لكن من الصُّعوبة أن تعثرَ على ديوانه، أو كتابٍ عنه؛ لأنَّ دورَ النشر أحجمت عن إعادة طباعة مثل هذه الكُتب، التى أرى نشرَها إعلاءً للثقافةِ والفِكْر والشِّعْر بشكلٍ خاص، كما أنَّها عملٌ قومى. وعلى الرغم من أنَّ البهاء زُهير- الذى وُلدَ بمكة سنة 581 هـجرية وقضى سنواتٍ من طفولته فى الحجاز- يُعدُّ أحد أئمة النهضة الشِّعرية فى العصريْن الفاطمى والأيُّوبى بمصر (فى القرن السَّابع الهجرى).

لكنَّها قليلةٌ هى الكُتب التى صدرت فى مصر أو أى بلدٍ عربى أو أجنبى آخر عن البهاء زُهير. وإنْ كُنتُ أشكُو قلة الاهتمام بالبهاء زهير فأذكرُ هنا أنَّ ديوان «البهاء زهير» كان شهيرًا بين المصريين، يحفظُونه وينشدُونه، وقد نُسخَ مراتٍ كثيرة فى حياته وبعد مماته، حيث «كان كثيرَ الوجُود بأيدى الناس فى زمانه»، وذلك لسُهولة معانيه، ورشاقة ألفاظه، والظرف والبساطة التى شاعت فى قصائده ؛

وهناك أيضا الشاعر (ابن النبيه) ومن المُؤكَّد أنَّ أبا العلا محمد الموسيقى المصرى الرائد قد رأى سنة 1926 ميلادية شيئًا مختلفًا فى شِعْر ابن النبيه- من شُعراء القرنين السادس والسابع الهجريين؛ كى يختارَ له قصيدة «أَفْديه إن حفظ الهوى أو ضَيَّعا/ ملكَ الفُؤادَ فما عسى أنْ أصنَعَا» ليلحنها ويغنِّيها، ويمنحها بعد ذلك إلى أم كلثوم ومع ذلك لم يُعرَف ابن النبيه إلا بين خاصَّة الخاصَّة، على الرغم من أنه كان يعرفُ كيف يخاطبُ الرُّوحَ المصريةَ التى تتبدَّى فى شعرِه بوضُوحٍ.

كما أنَّ نصوصَهُ اتسمتْ بالرقَّة والعذوبة والسُّهولة.جُمِعَ شعره فى ديوانٍ حمل اسمه عام 1839ميلادى على يد الوزير عبد الله باشا فكرى وكان واحدًا من أهل الغزَل فى العصر الأيوبى، ممَّن أطلِقَ عليهم أصحاب «الطريقة الغرامية» وهى طريقةٌ مصريةٌ خالصةٌ، وألفاظ شعرابن النبيه ليِّنة، وبحوره مجزُوءة أو قصيرة، ومن سماته وهو الذى كان رئيسًا لديوان الإنشاء للملك الأشرف موسى، ورحل إلى نصيبين (وهى الآن مدينةٌ تاريخيةٌ تقعُ فى محافظة ماردين، تركيا) فسكنها وتُوفى بها.

ذِكر البلدان والأماكن، وتلك كانت خصيصة من خصائص الشِّعر فى مصرالإسلامية، حيثُ يكادُ الشِّعرُ المِصرى أن يقدم سجلًّا جغرافيا بأسماء البلدان والأماكن المصرية من مدنٍ وأحياءٍ ومعالم، وابن النبيه- الذى عاش ستين عامًا -- طبقًا لباحثٍ أحصى الأماكن التى وردت فى شعرِه قد تجاوزت مائة وبضعة وعشرين موضعًا. وتفتَّح وعى ابن النبيه الشِّعْرى.

وطمح إلى الالتحاق بدواوين صلاح الدين الأيوبى ووزيره الكاتب البليغ القاضى الفاضل راعى الأدباء فى عصره. وتولى بمصر ديوان الخراج والحساب، ومدح الملوك من بنى أيوب، ووزراء تلك الدولة وأكابرها، ثم اتصل بخدمة الملك الأشرف مظفر الدين أبى الفتح موسى بن محمد بن أيوب بن شادى، فانتظم فى سلك شعراء دولته.

2024-05-08T02:51:09Z dg43tfdfdgfd