ماذا تعرف عن سوق الأربعاء؟

مع الزمن وتراكُم الوقائع والأحداث، يتأكد أكثر أن سوق الأربعاء مُرتبطةٌ لدى من يَعرفُها من المغاربة بمختلف أنواع الصُّور السلبية والانتقاصية، ومع انتشار وسائل ووسائط الإعلام الجديدة، صارت الفضيحةُ بجَلاجِل كما يقول المَثل، بحيث تضاعفت تلك الصورُ الهدّامة، وهو ما يُولِّد علاقةً فُصامِية واضطرابية بين المُواطن الأربعائي والمَجال التُّرابي الذي يعيش فيه، خصوصا في نفوس فِئَةِ الشباب والأجيال الجديدة، إنهم يَحملون نُدُوب عارِ الانتماء وذَنْبِ الجُغرافيا. وليس غريبا على الإطلاق أن يجد المُواطنُ المحلي نفسَه عُرْضَةً للسُّخرية والازدِراء تصريحا أو تلميحا وهو في مُدُن أخرى كضريبةٍ لانتسابِه وانتمائِه إلى لعنةٍ جغرافيةٍ اسمُها سوق الأربعاء بَدْءا من سلبيةِ التسمية المجالية. بل، إن ترسانةً من المُوظَّفين الوافِدين للعمل بسوق الأربعاء يَتوارَثُون عقيدةَ النظرة الدونية لسُكان المدينة، ولا يختلف في ذلك المُوظَّفون بقطاعات السلطة والأمن عن قطاع التعليم والصحة، والمالية والشبيبة والرياضة، وغيرها، وفي هذا الأمر وقائع وحكايات ومَرويات لا تُحصى.

ونظرا لغياب العدالة الإعلامية في الجانب الرسمي، فنحن نلاحظ أن سوق الأربعاء لا يأتي ذكرُها إلا في الوقائع البئيسة مثل “قصة الناس، مختفون…”، وصفحات الجرائم والبَشاعات على الجرائد الوطنية والمواقع الإخبارية، إذْ من النادر جدا أن نرى صورةً أو حضورا مُشَرِّفا لسوق الأربعاء في الإعلام الوطني. إن هذه الصورة المُتَداوَلة حَوْلَنَا وعَنّا، تُسِيئُ للهوية الجمعية، وتُحَطِّمُ الكبرياءَ العام، وتَضرب في الصميم الانتماءَ والارتباطَ العُضوي والنفسي بالمجال التُّرابي، وليست المُواطَنةُ المحليةُ في النهاية سوى ذلك الشعور بأن الذات تَنْبُتُ في المكان وأن روحَها مُتَّصِلة به. ولا شكّ أننا كمُواطنين من هذه المدينة المَنكُوبة رمزيا، نَلُوذُ بالماضي وفي الماضي، نَتَقوَّتُ منه وبِه، لأننا فَقَدنا السيطرةَ على الحاضر وعاجِزُون تماما عن تَمَلُّك مُستقبَلنا الجمعي. والحالُ هذه، لم يعُد لنا سوى الماضي المحلي نَحتمي به كنوعٍ من الوثَنية الجديدة، فلا يجتمع اثنان من أبناء/ بنات المدينة في كل مناسبة أو فُرصة دون التحسُّر والارتماء في الماضي كأنه حائطُ مَبْكانا الأخير!!

في وسط هذا الخراب المحلي الرمزي، لا تزال هناك طائفةٌ تُحاول الإمساكَ بجمر المُقاوَمة الرمزية والجمالية والثقافية والمدنية، منها بعضُ الجمعيات ذات الهوية والرهان الثقافي، لا النفعية قَنّاصة الفُرَص، وبعضُ حَمَلة لِواء القَلم في الإبداع الأدبي شعرا، وقصة، وزجلا، ورواية، وفَنّا، تُحاول إسماعَ صَوتِها الكَسير وسط تَعتيمِ أَدْخِنةِ “الكفتة” وضجيجِ البيّاعين في كل شيء داخل مدينةٍ تحوّلت سوقا مفتوحا، وبعضُ الأسماء الرمزية من أهل الوَجاهة والعِلم داخل وخارج الوطن مِمّن يَرفعون هويةَ الانتماء المحلي إلى سوق الأربعاء في مَحافل ومُناسبات دون عُقدةٍ ودون شعور بالنقص، كأنما كلُّ هؤلاء يَرفعون صرخةَ احتجاجٍ واحدة مُوحَّدة ضد الفوضى والمَهانة، وضدّ صُنّاع البُؤس الاجتماعي والعُمراني.

واضحٌ أن الواقع لا يمكن أن يكون يُوتُوبْيَا، وصورةً فاضلة، وهو ليس كذلك في أي رقعةٍ من الأرض وفي أي مرحلة من التاريخ، لكن الرداءة والانحطاط لا يُمكن أن يكون أيضا قاعدةً وسط استثناءٍ بسيط كما هو الحال بسوق الأربعاء، ولا يمكن تحت أي ظرفٍ التطبيعُ مع واقعٍ محلي بئيس في مُجملِه وتَذميري على المستوى الرمزي والمعنوي، إذ يُسجِّل واقعُ مدينةِ سوق الأربعاء مُفارَقات عِدّة، منها أن وتيرة التنمية التعميرية خلال الثلاثين سنة الأخيرة كَوَحَدةٍ عُمرية للقياس في ما يتعلق بعناصر: البنيات التحتية، المَرافق، الخدمات المُختلفة، بطيئةٌ جدا وهادرةٌ للزمن العمومي المحلي، ويُمكن أن نأخذ مُدُنا مُمَاثِلة لسوق الأربعاء، فنُلاحظ أن وتيرةَ التنمية فيها خلال هذه المُدة تَفُوقُ بكثيرٍ ما تحقق في “الحُفرة”. ومِن المُفارَقات المَريرة أيضأ أن سوق الأربعاء لم تخرج من لعنةِ إصلاح الإصلاح، فأغلبُ المشاريع التي تُضاف، خصوصا على مستوى الطُّرُقات، المَعابر أو المُؤسَّسات العمومية، أو الحدائق الصُّغرى الرملية، سُرعان ما تتصدّع وتَتَحفَّر حتى قبل أن تنتهي الولايةُ الانتخابية المحلية، وندخل في نفق “التلفيق والتلبيق “، وهو ما حَوّلَ المدينةَ خلال السنوات الأخيرة إلى جسدٍ مُشَوَّه بالعمليات الجراحية العشوائية، تَحوَّلنا معه في هذه المدينة إلى جسدٍ جماعي “مشرمل”، مُهانٌ ومَنْكُوبٌ كما شخصية فرانكشتاين. أما المُفارَقة الثالثة، أي ثالثةُ الأَثَافي على قول الحكمة المأثورة، فهي أن المُحاولات التعميرية والإصلاحية التي ارتفعت وتيرتُها أخيرا بشكل لا يُمكن أن يُنكِرَه إلا مَن في نفسِه مَرَضٌ، مع الأسف لا تُواكِبُها محاولات للاهتمام بعقلية الإنسان / المواطن المحلي، من خلال برمجةِ أنشطةٍ وفعاليات ثقافية وفنية ومدنية وأوراش بيئية وجمالية داخل الأحياء، وفي المُناسبات الوطنية والاجتماعية والأعياد العامة، ويكفي مهرجان/ موسم المدينة منذ بدأَ دليلا على الإمعان الرسمي في تكريس الصُّور السلبية والنمطية والاحتقارية للمدينة وساكِنَتِها، فهو بالنسبة لِأُولِي الألباب يُعد الواجِهَةَ والبَوابةَ الكُبرى للتسويق التُّرابي وإبراز الهوية التاريخية والثقافية والمجالية للجماعات وتقديم صورةٍ إيجابية للمدينة في الإعلام العمومي تُعزز افتخارَ المواطن المحلي بانتمائه وهُويتِه المادية واللامادية. لكن بذلك الفهم الفقير البَدوي والبئيس للمهرجان/ الموسم، إنما نُعَمِّقُ جُرْحَ الهوية ونَزيد الأزمةَ استفحالا ونُكَرِّسُ البَداوةَ والانحطاطَ النفسي في جماعةٍ حضرية بظهير ملكي منذ 1958 !! دون أن تُصبح حقا ذاتَ هويةٍ مدنية، إذْ إن موسيقى مُنحَطّة رديئة، تُشكلُ روحَ وجوهرَ المهرجان/ الموسم، لا يُمكن إلا أن تُغَذّي غرائزَ شابٍّ لاغتصاب طفلٍ قاصر خلال رمضان وتهشيم رأسِه داخل خَرابة، ولا يمكن إلا أن تَدفع عصابيةً أُسرَية للهُجوم المُسَلَّح بالكلاب والسواطير على بيتِ أسرةٍ أخرى مع أذان المغرب خلال رمضان قَتْلا وتَنكيلا، ولا يُمكن إلا أن تَدفع شبابا مُدْمِنين لتصفيةِ طفلٍ من العائلة والتلاعُب بجُثَّتِه، ولا يمُكن إلا أن تَدفع رجُلا إلى قَتل رجلٍ وإلقاءِ جُثَّتِه في القُمامة خلال أيام العيد، ولا يُمكن إلا أن تُشعل ظاهرةَ القتَلَة المُتجَوِّلين من أصحاب الدراجات الثُّلاثية كأننا في مدينة الكارتيلات اللاتينية، ولا يُمكن إلا أن تُعَمِّقَ اليأسَ والتطرُّفَ المُضاد في نفْس شاب ليصير لُقمةً سهلةَ المنال لداعش وسط حي السلام!!. إن غياب رؤيةٍ عمليةٍ مُندمجةٍ للنهوض بالشأن الثقافي والمَدني والفني، وانعدام الانفتاح على المُحيط التربوي المُؤسَّسي والفعاليات الجمعوية الجادة والنُّخبة المُثقّفة بروح المواطَنة المُشتركَة دون فُوبيا أو رُهابٍ انتخابوي، يُشكل المَرتَع والمُستنقَع لتنامي ذهنيةِ الإشباع الغرائزي والعُنف والتطرُّف الاجتماعي والنفسي بكل أنواعه، ويجعلُ صورةَ المدينة تَتَدنّس يوما عن يوم، وتَهوي صورتُها إلى الحَضيض العام.

يبدو واضحا وبلا جدال أن الرؤية التنموية التكامُلية والمشروعَ الثقافي للهُوية المحلية يبقى خارجَ مَدارِك أهل الحَلِّ والعَقد المُتَعاقِبين محليا منذ سنوات، وعلى المُستوى الشخصي فقد ثابَرْتُ وأخفَقتُ مع تجربَتَين انتخابِيَتَيْنِ محليا في هذا الشأن، عقدتُ عليهما آمالا كبيرة، على الأقل للتأُثير من أجل تَثْمين المُقَدّرات الجمعوية والمدنية والتُّراثية والثقافية في مدينةٍ ثَكْلَى، حتى نفضتُ يدي تماما من هذا الأمل والحُلم المتعلق برعاية الثقافة والهوية المحلية، ولَئِنْ تبدّلت أسماءُ المُكَوِّنات الانتخابية والبطانةُ خلال العُقود الأخيرة، فالخَلَلُ ثابتٌ، وما الفرقُ إلا في الدرجة والحِدّة، لأن النوع الذهني واحدٌ في العمل الانتخابَوي محدود الرؤية، المُتوجِّس حيطةً والمُبَخِّسِ للثقافة والفن والجمال وما يأتي منها، لنبقى جميعا ضحيَّةَ صورَةٍ هدّامة أمام المغاربة، نَصْلَى الشعورَ بعارِ الانتماء والانْخِلاع واحتقار الذات، ومن ثمة الاستنجادُ الجماعي بالماضي وسُعار الحروب مع طواحين الهواء.

سوق الأربعاء هزيمَتُنا الأخيرة… سوق الأربعاء هزيمَتُنا الأخيرة…

The post ماذا تعرف عن سوق الأربعاء؟ appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.

2024-04-15T23:28:15Z dg43tfdfdgfd